في المشهد الكروي الأردني، لم يكن ما تحقق مجرّد انتصار رياضي عابر، بل انعكاسًا لمعادلة وطنية صيغت بعناية بين الرؤية والعدالة، بين القيادة والميدان. من موقعي كرئيس فخري لنادٍ رياضي، ومن منظاري كمحللة للشأن العام، أقرأ ما جرى لا كلعبة انتهت بصافرة حكم، بل كتجربة متكاملة تُثبت أن الإرادة السياسية الواعية حين تقترن بالإدارة الرشيدة، تصنع تحوّلًا عابرًا للحدود والملاعب.
وكمحلّلة للشأن العام، لا أستطيع أن أمرّ على ما جرى في الساحة الكروية الأردنية دون أن أتأمل هذه القفزة النوعية بكل فخر وتحليل. ما تحقق ليس مجرد إنجاز رياضي، بل هو مثال صارخ على كيف تصنع الإرادة السياسية الواعية تحولًا وطنيًا عابرًا للملاعب.
حين تولّى سمو الأمير علي بن الحسين رئاسة الاتحاد الأردني لكرة القدم عام 1999، كانت اللعبة الشعبية الأولى في الأردن تحاول الوقوف على أقدامها وسط واقع متواضع محكوم بمراكز محددة للموهبة، ومحكوم أكثر بنظام لا يكافئ الأداء بقدر ما يكرّس المحسوبية. لكن الأمير علي، بإصرار هادئ وعقلية استراتيجية، لم يدخل هذا الميدان بشعارات، بل شرع بإعادة هيكلة عميقة وصبورة للمنظومة الكروية، مستندًا إلى قناعة جوهرية: لا نجاح دون عدالة في الفرص.
بدأ العمل من القاعدة: توجيه طواقم فنية لرصد المواهب في المباريات الشعبية والودية في مختلف المحافظات، بعيدًا عن الأسماء الكبيرة أو النفوذ المحلي. تبع ذلك تدريب محترف على يد مدربين أكفاء، وتوفير عقود وأجور للاعبين، لضمان تفرغهم وترسيخ احترافيتهم. وفي الوقت ذاته، أدارت الخصخصة التدريجية للأندية تحولًا هامًا، حيث دخلت شركات راعية قادرة على تمويل الأندية، مما أتاح التعاقد مع لاعبين جدد، فخرجت المنافسة من حصرية “الفيصلي والوحدات”، وبدأنا نشهد فرقًا تصعد بقوة وتُصنع بجدارة.
في موازاة هذا الجهد البنيوي، لعب سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله الثاني دورًا داعمًا ومُلهمًا، عكس إيمانه العميق بأن الرياضة ليست هامشًا ترفيهيًا، بل رافعة حقيقية للانتماء الوطني. ففي خطوة رمزية أثبتت عمق هذا التوجه، وجّه سموه، خلال كأس العالم 2022، بتوفير شاشات عرض عملاقة في جميع المحافظات، كي يعيش الأردنيون الفرح الكروي بشكل جماعي. هذا الفعل الذي بدا للبعض ترفًا مؤقتًا، كان في جوهره إعلانًا عن رؤية جديدة: أن الرياضة للجميع، في كل مكان.
واكب هذا التوجه دعمًا ملموسًا للبنية التحتية الرياضية، من خلال توسيع شبكة الملاعب والمرافق الآمنة في المحافظات، ضمن خطط تنموية شاملة فتحت الأفق أمام آلاف الأطفال والشباب ليحلموا، ويتمرنوا، ويُظهروا مهاراتهم. لقد وفّرت هذه البيئات الأرض الخصبة التي استثمرها الاتحاد الأردني بقيادة الأمير علي لرعاية الموهبة وتوجيهها، بعيدًا عن الوساطة والمناطقية، وبمعايير تضع الأداء فقط على طاولة التقييم.
لم يكن التطور مفاجئًا، بل كان تصاعديًا ومدروسًا. في 2004، وصل المنتخب إلى ربع نهائي كأس آسيا، ثم تحسّن الأداء في نسخ لاحقة، وبرز نجوم جدد. في 2016، استضافت المملكة بطولة كأس العالم للسيدات تحت 17 عامًا، في إشارة واضحة إلى الجاهزية التنظيمية. في 2021، خطف المنتخب الأنظار في نصف نهائي كأس العرب، ثم حقّق وصافة كأس آسيا في 2023، لتتوج المسيرة أخيرًا بالتأهل المباشر إلى كأس العالم 2026 لأول مرة في تاريخه – إنجاز غير مسبوق تتحدث عنه القارة بأكملها.
إن ما حدث ليس مجرد رحلة نجاح رياضي، بل تجربة وطنية مكتملة الأركان، قامت على إيمان قيادي عميق واحتراف مؤسسي، وعدالة في اختيار الكفاءات. ولم يكن هذا المسار لينجح دون الرؤية الثابتة لسمو الأمير علي، والدعم الملكي الدائم من جلالة الملك عبد الله الثاني، والمساندة المحورية من سمو ولي العهد، الذين آمنوا بأن كرة القدم ليست هدفًا، بل وسيلة لتكريس الانتماء، وتحقيق العدالة وصياغة صورة مشرقة عن الأردن.
فهل آن الأوان أن نستلهم هذا النموذج في قطاعاتنا الأخرى؟ أن نُؤمن بأن الكفاءة، لا النسب ولا الواسطة، هي التي تصنع النجاح؟ لعل في قصة كرة القدم الأردنية ما يكفي من الإجابات.
الروابط الإخبارية:
https://alrai.com/article/10885421/كتاب/حين-تصبح-الكرة-مرآة-وطن-قراءة-في-التجربة-الكروية-الأردنية
أخبارنا | د. ميسون تليلان السليم : حين تصبح الكرة مرآة وطن: قراءة في التجربة الكروية الأردنية”