الهوية كسردية سائلة: قراءة في جولة في نصف الدماغ الأيسر لميسون تليلان (2)

أ.د.عبد المنعم همت

من يقرأ كتاب جولة في نصف الدماغ الأيسر لميسون يشعر منذ الصفحات الأولى أنه أمام نص يتجاوز مجرد العرض الثقافي أو التأمل النفسي، إنه مشروع فلسفي يعيد فتح السؤال الجوهري الذي رافق الفكر الإنساني منذ بداياته: من نحن؟ كيف نظل نحن ونحن نرى ذواتنا تتغير مع مرور الأيام وتبدل الظروف؟ ما الذي يجعل الذات متماسكة، أو هل بقي معنى للتماسك في عصر لا يعترف بالثبات؟ هذا السؤال ظل حاضراً منذ أفلاطون الذي رد الهوية إلى المثال الثابت، وأرسطو الذي ربطها بجوهر الكائن، وديكارت الذي أقامها على الفكر، وهيجل الذي جعلها حركة للروح عبر التاريخ، وريكور الذي أعاد صياغتها بوصفها سردية تروي الذات بها قصتها. غير أن اللحظة التي نعيشها اليوم تضيف مستوى جديداً لم يكن حاضراً عند أولئك المفكرين، إذ إن العالم الرقمي أدخل الإنسان في فضاء لم يعرفه من قبل فضاء لا يستقر على حال حيث الهوية أصبحت أقرب إلى تدفق متغير لا يهدأ، أشبه بموجة تكتب نفسها ثم تمحوها ثم تعيد رسمها بطرق غير متوقعة.

تنظر د.ميسون إلى هذه المسألة من زاوية حيوية تجعلها قريبة من همّ القارئ المعاصر. فهي لا تتعامل مع الهوية كمفهوم تجريدي وإنما تربطها بالذاكرة، بالصور التي يستعيدها الفرد بالوجوه التي يظهر بها في الفضاء الرقمي. تقول إن الذاكرة لم تعد مخزناً صامتاً يحتفظ بالأحداث كما هي، بل تحولت إلى شاشة يعاد عبرها بناء الماضي في كل استدعاء. كل ذكرى ليست مجرد استرجاع، وإنما إعادة خلق. حين يتذكر الإنسان طفولته، لا ينقل صورة ثابتة محفوظة في أعماقه، بل يكتبها من جديد وفقا لذاته الراهنة وفقا لرغباته الحالية، وفقاً للطريقة التي يرى بها العالم اليوم. هذا يعني أن الهوية ليست خطاً مستقيماً يربط الماضي بالحاضر، وإنما هي عملية سرد مستمرة تعيد الذات فيها كتابة ذاتها مراراً.

هذا التصور يجعل المفكرة الاردنية د. ميسون تليلان قريبة من بول ريكور الذي صاغ فكرة الهوية السردية. ريكور يرى أن الإنسان لا يعرف نفسه عبر ما هو ثابت فيه، وإنما عبر الحكايات التي يرويها عن نفسه وأن هذه الحكايات تتغير مع الزمن فتجعل الهوية أكثر غنى لكنها أيضا أكثر سيولة. غير أن الفرق الجوهري أن ريكور كان يكتب قبل انفجار الثورة الرقمية بينما تليلان تضع هذه الفكرة مباشرة في قلب عالم افتراضي يعيد تشكيل الإنسان بعمق. فالذات اليوم لا تروي قصتها وحدها، بل يشاركها في صياغتها جمهور غير مرئي وخوارزميات تحدد ما يظهر وما يختفي وإيقاع جماعة رقمية تفرض معاييرها دون أن تعلن نفسها.

بهذا الشكل ، يصبح للهوية طابع جديد: لم تعد وجها واحداً ثابتاً، بل صارت أقنعة متعددة يغيّرها الإنسان وفقاً للمنصة التي يقف عليها، وفقاً للجمهور الذي يواجهه، وفقًا للفضاء الذي يتحرك فيه. القناع لم يعد مجرد تزييف يخفي الوجه الحقيقي وإنما صار جزءاً من الذات نفسها. وهنا تبرز المفارقة التي تلمح إليها ميسون بوضوح: كلما ظن الإنسان أنه أكثر حرية في اختيار هوياته، ازداد خضوعاً لإيقاع لا يراه، إيقاع تفرضه عليه البنى الرقمية التي تعيد توجيه رغبته وتحدد ذوقه.

إن ديكارت حين قال أنا أفكر إذن أنا موجود كان يضع التفكير كجوهر الهوية. غير أن الإنسان المعاصر، في ضوء ما تشير إليه ميسون، يعيش تحولاً جذرياً: وجوده صار مرهوناً بالتواصل. يمكن صياغة العبارة الديكارتية اليوم على نحو آخر: أنا أتواصل إذن أنا موجود. فالقيمة الوجودية لم تعد تُقاس بعمق الفكر ولا بصدق التجربة الداخلية، وإنما بمدى الظهور على الشاشة، بقدرة الذات على أن تكون مرئية، حاضرة، قابلة للتفاعل. الحضور الرقمي صار شرطًا للوجود، كأن الإنسان فقد حقه في أن يكون إذا لم يكن حاضراً أمام الآخر عبر الواجهة الرقمية.

هذا التحول يجعلنا نستدعي جان بودريار الذي تحدث عن مجتمع المحاكاة، حيث تتحول الصور إلى واقع يبتلع الحقيقة نفسها. ما يعيشه الفرد في الفضاء الرقمي يشبه تماماً ما وصفه بودريار: هوية تتحول إلى صورة، قناع يتبدل، واجهة بلا عمق. الإنسان لا يعود يعيش ذاته كما هي، بل يعيش تمثيلها، يعيش انعكاسها على الشاشة، حتى يصبح التمثيل أكثر واقعية من الواقع نفسه. هنا يتقاطع فكر د.ميسون مع نقد بودريار، إذ تكشف أن الهوية الرقمية ليست مجرد امتداد للذات، وإنما فضاء جديد يبتلعها ويعيد إنتاجها بطرق لا تملك السيطرة عليها.

ومن جهة أخرى يمكن استدعاء جاك دريدا الذي كشف أن النص لا يكتمل أبداً، وأن المعنى يتأجل باستمرار فيما سماه الاختلاف. الهوية عند المفكرة الاردنية د.ميسون تليلان تشبه هذا النص المفتوح: كلما حاولت أن تثبت نفسها تكشّفت عن تغيّر جديد، كلما حاولت أن تغلق تعريفها، انفتح التعريف على احتمالات أخرى. الذات، وفق هذا الفهم، ليست كيانًا يُعرَّف مرة واحدة، وإنما نص لا ينتهي، يكتب نفسه ثم يترك فراغات ينتظر أن تُملأ، لكنه لا يسمح بملئها نهائياً. ميسون هنا تنقل رؤية دريدا من النصوص إلى الذوات، فتجعل الهوية نصاً متشظياً في فضاء رقمي يعيد قراءته بلا توقف.

هذه الرؤية الجذرية عندها تكشف عمق الأزمة التي يعيشها الإنسان اليوم. فهو لا يستطيع أن يعود إلى وهم الهوية الصلبة، وفي الوقت نفسه لا يعرف كيف يعيش هذه السيولة دون أن يتفتت. د.ميسون لا تقدم إجابات سهلة، فهي لا تَعِد القارئ بيقين ولا تمنحه طمأنينة، لكنها تضعه أمام المرآة وتدعوه إلى أن يواجه ذاته في لحظة الحقيقة. إنها تقول له: هويتك ليست شيئاً تمتلكه، إنها مغامرة تعيشها، إنها صيرورة لا تعرف الثبات، إنها سؤال لا يكف عن الانفتاح.

ومع أن هذا الموقف يكشف شجاعة فلسفية في مواجهة الواقع، فإن القارئ الناقد قد يشعر أن التشخيص وحده لا يكفي. فالتفلسف لا يقتصر على كشف الأزمة، بل يحتاج أيضاً إلى فتح أفق للحياة داخلها. الإنسان لا يريد فقط أن يعرف أن هويته سائلة، بل يبحث عن طريقة ليظل واقفاً وسط هذا التيار، عن حكمة تساعده على العيش دون أن يغرق. وهنا يظهر ما يمكن اعتباره الثغرة في خطاب د.ميسون: أنها أضاءت المأزق بكفاءة، غير أنها تركت مسألة العيش فيه مفتوحة، كأنها تسلم القارئ إلى مصيره وتطالبه أن يواصل بنفسه ما لم تكتبه هي.

إن قوة هذا الكتاب أنه لا يدّعي امتلاك الجواب، وإنما يجعل القارئ جزءاً من السؤال. يضعه في مواجهة ذاته، ويكشف له أن الهوية لم تعد ما كنا نظنه، ويطالبه بأن يفكر كيف يمكن للذات أن تكون في عالم لا يعترف بالثبات. د.ميسون في جولة في نصف الدماغ الأيسر لم تُغلق الطريق أمامنا، لكنها جعلتنا نرى أن الطريق لم يعد كما كان، وأننا نسير في أرض لم تُرسم خرائطها بعد.

شارك عبر :

اخترنا لك

المنشورات ذات الصلة

الدليل الإجرائي لاختبار المهارات البيولوجية والاختبارات المساندة للقيادات النسائية

الفئة المستهدفة: القيادات النسائية في المؤسسات الرسمية، والمنظمات، والمجتمع المدني، والطامحات للارتقاء المهني والقيادي. آلية التدريب: 20 ساعة تدريبية مكثفة، تشمل اختبارات تشخيصية، تحليل علمي،

$ 120.00

دورة ريادة الأعمال للقيادات النسائية

دورة ريادة الأعمال للقيادات النسائية الريادة قرار... وأنتِ من تصنعين المسار! من لا يصنع طريقه بجرأة… يسير في الطرق التي صمّمها الآخرون

$ 300.00

إعداد وتدريب المدربين للقيادات النسائية TOT تدريب الأفراد

إعداد وتدريب المدربين للقيادات النسائية TOT تدريب الأفراد 36 ساعة تدريبية... تؤهلك لتصبحي مدرّبة قيادية بشهادة دولية معتمدة هل تطمحين لامتلاك أدوات التدريب الاحترافي، والوقوف بثقة أمام جمهورك؟ برنامج TOT...

$ 350.00

التدريب المؤسسي إعداد وتدريب المدربين للقيادات النسائية TOT

للمؤسسات التي تصنع التغيير من الداخل برنامج تدريبي احترافي يمتد على 48 ساعة تدريبية معتمدة، صُمم خصيصًا لتأهيل القيادات النسائية داخل المؤسسات والجامعات بمهارات التدريب المعاصر، ومنحهن شهادة دولية تُعزز...

$ 350.00

اخترنا لك

المنشورات ذات الصلة

الدليل الإجرائي لاختبار المهارات البيولوجية والاختبارات المساندة للقيادات النسائية

الفئة المستهدفة: القيادات النسائية في المؤسسات الرسمية، والمنظمات، والمجتمع المدني، والطامحات للارتقاء المهني والقيادي. آلية التدريب: 20 ساعة تدريبية مكثفة، تشمل اختبارات تشخيصية، تحليل علمي،

$ 120.00

دورة ريادة الأعمال للقيادات النسائية

دورة ريادة الأعمال للقيادات النسائية الريادة قرار... وأنتِ من تصنعين المسار! من لا يصنع طريقه بجرأة… يسير في الطرق التي صمّمها الآخرون

$ 300.00

إعداد وتدريب المدربين للقيادات النسائية TOT تدريب الأفراد

إعداد وتدريب المدربين للقيادات النسائية TOT تدريب الأفراد 36 ساعة تدريبية... تؤهلك لتصبحي مدرّبة قيادية بشهادة دولية معتمدة هل تطمحين لامتلاك أدوات التدريب الاحترافي، والوقوف بثقة أمام جمهورك؟ برنامج TOT...

$ 350.00

التدريب المؤسسي إعداد وتدريب المدربين للقيادات النسائية TOT

للمؤسسات التي تصنع التغيير من الداخل برنامج تدريبي احترافي يمتد على 48 ساعة تدريبية معتمدة، صُمم خصيصًا لتأهيل القيادات النسائية داخل المؤسسات والجامعات بمهارات التدريب المعاصر، ومنحهن شهادة دولية تُعزز...

$ 350.00